فصل: الجملة الأولى فيما نطق به القرآن الكريم من ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثالث فيما يكتب فيه:

وهو أحد أركان الكتابة الأربعة كما سبقت الإشارة إليه في بعض الأبيات المتقدمة؛ وفيه ثلاث جمل:

.الجملة الأولى فيما نطق به القرآن الكريم من ذلك:

وقد نطق القرآن بثلاثة أجناس من ذلك:
الأول: اللوح:
قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ} قرأ العامة بفتح اللام على أن المراد اللوح واحد الألواح؛ سمي بذلك لأن المعاني تلوح بالكتابة فيه؛ ثم اختلفوا، فقرأ نافع برفع محفوظ على أنه نعت للقرآن بتقدير بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح، وصفة بالحفظ لحفظه عن التغيير والتبديل والتحريف. قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقرأ الباقون بالجر على نعت اللوح. قال أبو عبيد: وهو الوجه، لأن الآثار الواردة في اللوح المحفوظ تصدق ذلك، وهو أم القرآن، منه نسخ القرآن الكريم والكتب المنزلة، ومنه تنسخ الملائكة أعمال الخلق. قال ابن عباس: وهو لوح من درة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وأصله في حجر ملك. وقال أنس: اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل عليه السلام، وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.
قال ابن عباس: وفي صدر اللوح مكتوب: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة. وسمي محفوظاً لأن الله تعالى حفظه عن الشياطين، وقيل: حفظه بما ضمنه.
وقيل: اللوح صدر المؤمن.
وقرأ يحيى بن يعمر في لوح بضم اللام، وهو الهواء، يقال لما بين السماء والأرض اللوح، والمعنى أنه شيء يلوح للملائكة فيقرأونه، وهو ذو نور وعلو وشرف، وقد ورد في القرآن بلفظ الجمع، قال تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} يريد ألواح التوراة. قال الكلبي: كانت من زبرجدة خضراء. وقال سعيد بن جبير: من ياقوتة. وقال مجاهد: من زمرد أخضر. وقال أبو العالية والربيع بن أنس: من برد. وقال الحسن: خشب، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الألواح التي أنزلت على موسى من سدر الجنة، وكان طول كل لوح منها اثني عشر ذراعاً». وقال وهب بن منبه: من صخرة صماء ألانها الله له فقطعها بيده، ثم قطعها بأصبعه.
واختلف في عددها، فقيل: سبعة، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ وقيل: لوحان، رواه أبو صالح عن ابن عباس أيضاً، وجمعت على عادة العرب في إيقاع الجمع على التثنية كما في قوله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين} يريد داود وسليمان عليهما السلام واختاره الفراء. وقيل: عشرة، قال له ابن منبه. وقيل: تسعة، قاله مقاتل. وقال أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير.
الثاني: الرق بفتح الراء:
قال تعالى: {والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور} قال المبرد: هو ما يرقق من الجلود ليكتب فيه. قال المعافي بن أبي السيار: ومن ثم استبعد حمله على اللوح المحفوظ، والمنشور المبسوط؛ واختلف في الكتاب المسطور فيه، فقيل: اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن، وقيل: ما كتبه الله تعالى لموسى وهو يسمع صرير الأقلام.
الثالث: القرطاس والصحيفة:
وهما بمعنى واحد وهو الكاغد.
أما القرطاس، فقال تعالى: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاسٍ فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} قال ابن أبي السيار: القرطاس كاغد يتخذ من بردي مصر، وكل كاغد قرطاس، قال: والجمهور على كسرها، وضمها أبو زيد وعكرمة وطلحة ويحيى بن يعمر، والذي حكاه الجوهري عن أبي زيد يخالف ذلك، فإنه قال فيه: قرطس بفتح القاف من غير ألف بعد الراء، والمراد بالكتاب في الآية الكريمة المتوب لا نفس الصحيفة؛ قاله المعافي.
وأما الصحيفة، فإنها لم ترد إلا بلفظ الجمع. قال تعالى: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} وقال جل وعز: {إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى} وتجمع أيضاً على صحائف، وسمي المصحف مصحفاً لجمعه الصحف. قال الجوهري: وسمي تصحيفاً للخطإ في الصحيفة.

.الجملة الثانية فيما كانت الأمم السالفة تكتب فيه في الزمن القديم:

وقد كانت الأمم في ذلك متفاوتة، فكان أهل الصين يكتبون في ورق يصنعونه من الحشيش والكلإ، وعنهم أخذ الناس صنعة الورق؛ وأهل الهند يكتبون في خرق الحرير الأبيض، والفرس يكتبون في الجلود المدبوغة من جلود الجواميس والبقر والغنم والوحوش؛ وكذلك كانوا يكتبون في اللخاف بالخاء المعجمة: وهي حجارة بيض رقاق، وفي النحاس والحديد ونحوهما، وفي عسب النخل بالسين المهملة: وهي الجريد الذي لا خوص عليه، واحدها عسيب، وفي عظم أكتاف الإبل والغنم. وعلى هذا الأسلوب كانت العرب لقربهم منهم. واستمر ذلك إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن والعرب على ذلك، فكانوا يكتبون القرآن حين ينزل ويقرأه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في اللخاف والعسب؛ فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال عند جمعه القرآن: فجعلت أتتبع القرآن من العسب واللخاف. وفي حديث الزهري: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن في العسب وربما كتب النبي صلى الله عليه وسلم بعض مكاتباته في الأدم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأجمع رأي الصحابة رضي الله عنهم على كتابة القرآن في الرق لطول بقائه، أو لأنه الموجود عندهم حينئذ. وبقي الناس على ذلك إلى أن ولي الرشيد الخلافة وقد كثر الورق وفشا عمله بين الناس أمر ألا يكتب الناس إلا في الكاغد، لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة فتقبل التزوير، بخلاف الورق فإنه متى محي منه فسد، وإن كشط ظهر كشطه. وانتشرت الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار، وتعاطاها من قرب وبعد، واستمر الناس على ذلك إلى الآن.

.الجملة الثالثة في بيان أسماء الورق الواردة في اللغة ومعرفة أجناسه:

الورق بفتح الراء اسم جنس يقع على القليل والكثير، واحده ورقة، وجمعه أوراق، وجمع الورقة ورقات، وبه سمي الرجل الذي يكتب وراقاً. وقد نطق القرآن الكريم بتسميته قرطاساً وصحيفة كما مر بيانه. ويسمى أيضاً الكاغد بغين ودال مهملة ويقال للصحيفة أيضاً طرس، ويجمع على طروس، ومُهْرَقٌ بضم الميم وإسكان الهاء وفتح الراء المهملة بعدها قاف، ويجمع على مهارق، وهو فارسي معرب، قاله الجوهري. وأحسن الورق ما كان ناصع البياض غرفاً صقيلاً، متناسب الأطراف، صبوراً على مرور الزمان. وأعلى أجناس الورق فيما رأيناه البغدادي وهو ورق ثخين مع ليونة ورقة حاشية وتناسب أجزاء، وقطعه وافر جداً، ولا يكتب فيه في الغالب إلا المصاحف الشريفة، وربما استعمله كتاب الإنشاء في مكاتبات القانات ونحوها كما سيأتي بيانه في المكاتبات السلطانية. ودونه في الرتبة الشامي؛ وهو على نوعين: نوع يعرف بالحموي، وهو دون القطع البغدادي، ودونه في القدر وهو المعروف بالشامي، وقطعه دون القطع الحموي، ودونهما في الرتبة الورق المصري؛ وهو أيضاً على قطعين: القطع المنصوري، وقطع العادة، والمنصوري أكبر قطعاً، وقلما يصقل وجهاه جميعاً. أما العادة فإن فيه ما يصقل وجهاه ويسمى في عرف الوراقين: المصلوح. وغيره عندهم على رتبتين: عال ووسط. وفيه صنف يعرف بالفوي صغير القطع، خشن غليظ خفيف الغرف، لا ينتفع به في الكتابة، يتخذ للحلوى والعطر ونحوه ذلك. وإنما نبهت على ذلك وإن كان واضحاً لأمرين: أحدهما، ألا نخلي كتابنا من بيان الورق الذي هو أحد أركان الكتابة، الثاني، أنه قد ينتقل الكتاب إلى إقليم لا يعرف فيه تفاصيل أمر الورق المصري كما لا يعرف المصريون ورق غير مصر معرفتهم بورق مصر، فيقع الاطلاع على ذلك لمن أراده. ودون ذلك ورق أهل الغرب والفرنجة فهو رديء جداً، سريع البلى، قليل المكث؛ ولذلك يكتبون المصاحف غالباً في الرق على العادة الأولى طلباً لطول البقاء.
وسيأتي الكلام على مقادير قطع الورق عند أهل التوقيع وأهل الديونة عند ذكر ورق كل فن، وما يناسبه من القطع إن شاء الله تعالى.
الصنف الخامس مراعاة فواصل الكلام:
قال في مواد البيان: وذلك بأن تميز الفصول المشتمل كل فصلٍ منها على نوع من الكلام عما تقدمه: لتعرف مباديء الكلام ومقاطعه؛ فإن الكلام ينقسم فصولاً طوالأ وقصاراً، فالطوال كتقسيم منثور المترسل إلى رسائله، ومنظوم الشاعر إلى قصائده، ومثل هذا لا يحتاج إلى تفصيل، لأنه لا يشكل الحال فيه في الرسالة أو القصيدة بغيرها اتصالاً وانفصالاً.
والفصول القصار كانقسام الرسالة إلى الفصول، والقصيدة إلى الأبيات، ومثل هذا قد يشكل، فينبغي أن تميز تمييزاً يؤمن معه من الأختلاط، فإن ترتيب الخط يفيد ترتيب اللفظ. وذلك أن اللفظ إذ كان مرتباً تخلص بعض المعاني من بعض، وإذا كان مخلطاً أشكلت معانيه، وتعذر على سامعه إدراك محصوله.
وكذلك الخط إذا كان متميز الفصول، وصل معنى كل فصل منه إلى النفس على صورته، وإذا كان متصلاً دعا إلى إعمال الفكر في تخليص أغراضه.
وقد اختلفت طرق الكتاب في فصول الكلام الذي لم يميز بذكر باب أو فصل ونحوه. فالنساخ يجعلون لذلك دائرة تفصل بين الكلامين، وكتاب الرسائل يجعلون للفواصل بياضاً يكون بين الكلامين من سجع أو فصل كلام، إلا أن بياض فصل الكلامين يكون في قدر رأس إبهام، وفصل السجعتين يكون في قدر رأس خنصر.
قال في مواد البيان: وينبغي إلا تكون الجملة في آخر السطر والفاصلة في أول السطر الذي يليه، فإنه ملبس لاتصال الكلام؛ بل لا يجعل في أول السطر بياضاً أصلاً لأنه يقبح بذلك لخروجه عن نسبة السطور؛ ولا أن يفسح بين السطر والذي يليه إفساحاً زائداً عما بين كل سطرين، ولكن يراعي ذلك من أول شروعه في كتابة السطر فيقدر الخط بالجمع والمشق حتى يخلص من هذا العيب.
الصنف السادس: حسن التدبير في قطع الكلام ووصله في أواخر السطور وأوائلها:
لأن السطور في المنظر كالفصول، فإذا قطع السطر على شيء يتعلق بما بعده كان قبيحاً، كما إذا كتب بعض حروف الكلمة في آخر السطر وبعضها في أول السطر الذي يليه.
ثم للفصل المستقبح في آخر السطر وأول الذي يليه صنفان:
الصنف الأول: فصل بعض حروف الكلمة الواحدة عن بعض:
وتفريقها في السطر والذي يليه مثل أن تقع معه لفظة كتاب في آخر السطر، فيكتب الكاف والتاء والألف في آخر السطر، والباء في أول السطر الذي يليه؛ أو يقع في آخر السطر لفظ مسرور فيكتب الميم والسين والراء فيه، والواو والراء الثانية في أول السطر الذي يليه ونحو ذلك.
قال في مواد البيان: وهو قبيح جداً لأنه لا يجوز فصل الاسم عن بعضه. قال: وأكثر ما يوجد ذلك في مصاحف العامة وخطوط الوراقين؛ والحامل لهم على ذلك في الغالب هو ضيق آخر السطر عن الكلمة بكمالها، ومن هنا احتاج الكاتب إلى النظر في ذلك بالجمع والمشق من حين شروعه في كتابة أول السطر على ما تقدم.
قال صاب منهاج الأصابة: وإنما وقع مثل ذلك في المصاحف التي كتبت في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنها كتبت بقلم جليل مبسوط، فربما وقع في بعض الأماكن اللفظة فيقطعها في آخر السطر ويجعل باقيها في السطر الثاني.
وعلى ذلك حمل ما روي أن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها إذ لا جائز أن يكون ذلك لحناً في اللفظ فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن ما بين دفتي المصحف قرآنٌ، ومحال أن يجتمعوا على لحن. على أن هذه الراوية غير مشهورة عن عثمان رضي الله عنه كما أشار إلى ذلك الشاطبي بقوله في الرائية:
ومن روى ستقيم العرب ألسنها ** لحناً به قول عثمان فما شهرا

الصنف الثاني: فصل الكلمة التامة وصلتها:
مثل أن يكتب وصل كتابك وأيدك الله مفصلات، فيكتب وصل في آخر السطر وكتابك في أول الذي يليه، أو يكتب أيدك في آخر سطر واسم الله تعالى في أول الذي يليه، وما جرى مجرى ذلك.
قال في مواد البيان: والأحسن تجنبه إذا أمكن، فإن لم يمكن فيتجنب القبيح منه، وهو الفصل بين المضاف والمضاف إليه، كعبد الله وغلام زيد وما أشبه ذلك، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الاسم الواحد؛ والفصل بين الاسم وما يتلوه في النسب، كقولك زيد بن محمد، فلا يجوز أن يفصل بين الاسم والمنسوب إليه كما لا يجوز أن يفصل بين المضاف والمضاف إليه. قال: فإن كان المراد بلفظة ابن تثبيت البنوة كقولك لزيد ابن جاز قطع الأبن عما تقدمه. وكأنه إنما امتنع ذلك لأن لزيد لا يستقل بنفسه فلا يدخله لبس بخلاف غلام زيد ونحوه. ثم قال: ومما يقبح فصله الفصل بين كل اسمين جعلا اسماً واحداً نحو: حضرموت، وتأبط شراً، وذي يزن، وأحد عشر.
قلت: وباب الخط وأقلامه وحسن تدبيره متسع لا يسع استيفاؤه.

.الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الأولى في لواحق الخط:

وفيه مقصدان:

.المقصد الأول في النقط:

وفيه أربع جمل:
الجملة الأولى في مسيس الحاجة إلى النقط:
قال محمد بن عمر المدائني: ينبغي للكاتب أن يعجم كتابه، ويبين إعرابه، فإنه متى أعراه عن الضبط، وأخلاه عن الشكل والنقط كثر فيه التصحيف، وغلب عليه التحريف. وأخرج بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لكل شيء نورٌ، ونور الكتاب العجم. وعن الأوزاعي نحوه.
قال أبو مالك الحضرمي: أي قلم لم تعجم فصوله، استعجم محصوله. ومن كلام بعضهم: الخطوط المعجمة، كالبرود المعلمة.
ثم قد تقدم في الكلام على عدد الحروف أن حروف المعجم تسعةٌ وعشرون حرفاً، وقد وضعت أشكالها على تسعة عشر شكلاً. فمنها ما يشترك في الصورة الواحدة منه الحرفان: كالدال والذال والراء والزاي، والسين والشين. ومنها ما يشترك في الصورة الواحدة منه الثلاثة: كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء. ومنها ما ينفرد بصورة واحدة كالألف. ومنها ما لا يلتبس حالة الأفراد، فإذا ركب ووصل بغيره التبس، كالنون والقاف، فإن النون في حالة الأفراد منفردةٌ بصورة، فإذا ركبت مع غيرها في أول كلمة أو وسطها، اشتبهت بالباء وما في معناها؛ والقاف إذا كانت منفردة لا تلتبس، فإذا وصلت بغيرها أولاً أو وسطاً التبست بالفاء، فاحيتج إلى مميز يميز بعض الحروف من بعض: من نقط أو إهمال ليزول اللبس، ويذهب الأشتراك.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: ولذلك ينبغي أن القاف والنون إذا كتبا في حالة الأفراد على صورتهما الخاصة بهما لا ينقطان، لأنه لا شبه بينهما ولا يشبهان غيرهما، فيكونان إذ ذاك كالكاف واللام. قال: ومنع بعض مشايخنا الأشتراك في صورة الحروف، وقال: الصورة والنقط مجموعهما دالٌ على كل الحرف.
إذا تقرر ذلك فالنقط مطلوب عند خوف اللبس، لأنه إنما وضع لذلك؛ أما مع أمن اللبس فالأولى تركه لئلا يظلم الخط من غير فائدة.
فقد حكي أنه عرض على عبد الله بن طاهر خط بعض الكتاب فقال: ما أحسنه! لولا أنه أكثر شونيزه.
وقد حكى محمد بن عمر المدائني أن جعفراً المتوكل كتب إلى بعض عماله أن أحص من قبلك من المدنيين وعرفنا بمبلغ عددهم، فوقع على الحاء نقطة فجمع العامل من كان في عمله منهم وخصاهم فماتوا غير رجلين أو واحد.
وقد حكى المدائني عن بعض الأدباء أنه قال: كثرة النقط في الكتاب سوء ظن بالمكتوب إليه.
أما كتاب الأموال فإنهم لا يرون النقط بحال؛ بل تعاطيه عندهم عيبٌ في الكتابة.
الجملة الثانية في ذكر أول من وضع النقط:
قد تقدم في الكلام على وضع الحروف العربية أن أول من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من قبيلة بولان على أحد الأقوال، وهم: مرار بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة وأن مراراً وضع الصور، وأسلم فصل ووصل، وعامرأً وضع الأعجام. وقضية هذا أن الأعجام موضوع مع وضع الحروف.
وقد روي أن أول من نقط المصاحف ووضع العربية أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه. فإن أريد بالنقط في ذلك الأعجام، فيحتمل أن يكون ذلك ابتداء لوضع الأعجام، والظاهر ما تقدم، إذ يبعد أن الحروف قبل ذلك مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المصحف.
وقد روي أن الصحابة رضوان الله عليهم جردوا المصحف من كل شيء حتى من النقط والشكل. على أنه يحتمل أن يكون المراد بالنقط الذي وضعه أبو الأسود الشكل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الجملة الثالثة في بيان صور النقط وكيفية وضعه:
قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: وللنقط صورتان: إحداهما شكلٌ مربع والأخرى شكل مستدير.
قال: وإذا كانت نقطتان على حرف، فإن شئت جعلت واحدة فوق أخرى، وإن شئت جعلتهما في سطرٍ معاً، وإذا كان بجوار ذلك الحرف حرف ينقط لم يجز أن يكون النقط إذا اتسعت إلا واحدة فوق أخرى والعلة في ذلك أن النقط إذ كن في سطر خرجن عن حروفهن فوقع اللبس في الأشكال، فإذا جعل بعضها على بعض كان على كل حرف قسطه من النقط فزال الأشكال.
قلت: وإذا كان على الحرف ثلاث نقط، فإن كانت ثاء جعلت واحدة فوق اثنتين، وإن كانت شيناً فبعض الكتاب ينقطه كذلك، وبعضهم ينقطه ثلاث نقط سطراً، وذلك لسعة حرف الشين بخلاف الثاء المثلثة.
أما السين إذا نقطت من أسفلها، فإنهم ينقطونها ثلاثةً سطراً واحداً.
الجملة الرابعة فيما يختص بكل حرف من النقط وما لانقط له:
قد تقدم أن حروف المعجم ثمانية وعشرون حرفاً سوى اللام ألف، وأن ذلك على عدد منازل القمر الثمانية والعشرين؛ وأن المنازل أبداً منها أربعة عشر فوق الأرض، وأربعة عشر تحت الأرض؛ ثم إنه لا بد أن يبقى مما فوق الأرض منزلةٌ مختفيةٌ تحت الشفق، فكانت الحروف المنقوطة خمسة عشر حرفاً بعدد المنازل المختفية: وهي الأربعة عشر التي تحت الأرض، والواحدة التي تحت الشعاع، إشارة إلى أنها تحتاج إلى الأظهار لاختفائها: وهي الباء، والتاء، والثاء والجيم، والخاء، والذال، والزاي، والشين، والضاد، والظاء، والغين، والفاء، والقاف، والنون، والياء، آخر الحروف.
وكانت الحروف العاطلة ثلاثة عشر بعدد المنازل الظاهرة: وهي الألف، والحاء، والدال، والراء، والسين، والصاد، والطاء، والعين، والكاف، واللام، والميم، والهاء، والواو.
فأما الألف فإنها لا تنقط لانفرادها بصورةٍ واحدةٍ، إذ ليس في الحروف ما يشبهها في حالتي الأفراد والتركيب.
وأما الباء فإنها تنقط من أسفل لتخالف التاء المثناة من فوق، والثاء المثلثة في حالتي الأفراد والتركيب، والياء المثناة من تحت، والنون في حالة التركيب ابتداءً أو وسطاً؛ ونقطت من أسفل لئلا تلتبس بالنون حالة التركيب.
وأما التاء فإنها تنقط باثنتين من فوق لتخالف ما قبلها وما بعدها من الصورتين في حالة الأفراد، وتخالفهما مع الياء والنون حالة التركيب ابتداءً أو وسطاً.
وأما الثاء فإنها تنقط بثلاثٍ من فوق لتخالف ما قبلها من الصورتين في الأفراد وتخالفهما مع النون والياء أيضاً في التركيب ابتداءً أو وسطاً.
وأما الجيم فإنها تنقط بواحدة من تحت لتخالف الصورتين بعدها.
وأما الحاء فإنها لا تنقط، ويكون الأهمال لها علامةً، وحذاق الكتاب يجعلون لها علامة غير النقط، وهي حاء صغيرةٌ مكان النقطة من الجيم.
وأما الخاء فإنها تنقط بواحدةٍ من أعلاها لتخالف ما قبلها من الجيم والحاء.
وأما الدال فإنها لا تنقط ولا تعلم، ويكون ترك العلامة لها علامةً.
وأما الذال فتنقط بواحدة من فوق فرقاً بينها وبين أختها.
وأما الراء فإنها لا تنقط ولا تعلم ويكون الأهمال لها علامةً.
وأما الزاي فإنها تنقط بواحدةٍ من فوق فرقاً بينها وبين الراء.
وأما السين فإنها لا تنقط وتكون علامتها الأهمال كغيرها؛ وبعض الكتاب ينقطها بثلاث نقطٍ من أسفلها.
وأما الشين فإنها تنقط بثلاث من فوق فرقاً بينها وبين أختها، فإن كات مدغمة فلا بد من جرة فوقها، ثم إن كانت محققة فاللائق التأسيس بنقطتين وجعل نقط ثالث من أعلاهما؛ وإن كانت مدغمة فالأولى جعل الثلاث نقط سطراً واحداً.
وأما الصاد فإنها لا تنقط؛ نعم حذاق الكتاب يجعلون لها علامة كالحاء، وهي صاد صغيرة تحتها.
وأما الضاد فإنها تنقط بواحدة من أعلاها فرقاً بينها وبين أختها.
وأما الطاء فإنها لا تنقط لكن لها علامة كصاد والحاء، وهي طاء صغيرة تحتها.
وأما الظاء فإنها تنقط بواحدة من فوقها فرقاً بينها وبين أختها.
وأما العين فإنها لا تنقط، ولها علامة كالحاء، والصاد و، والطاء، وهي عين صغيرة في بطنها.
وأما الغين فإنها تنقط بواحدة فرقاً بينها وبين أختها.
وأما الفاء فمذهب أهل الشرق أنها تنقط بواحدة من أعلاها، ومذهب أهل الغرب أنها تنقط بواحدة من أسفلها.
وأما القاف فلا خلاف بين أهل الخط أنها تنقط من أعلاها إلا أ من نقط القاء بواحدة من أعلاها نقط القاف باثنتين من أعلاها ليحصل الفرق بينهما، ومن نقط الفاء من أسفلها نقط القاف بواحدة من أعلاها.
وقد تقدم من كلام الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله عن بعض مشايخه: أن القاف إذا كتبت على صورتها الخاصة بها ينبغي إلا تنقط إذ لا شبه بينهما وذلك في حالتي الأفراد والتطرف أخيراً.
وأما الكاف فإنها لا تنقط، إلا أنها إذا كانت مشكولة علمت بشكلة، وإن كانت معراة رسم عليها كاف صغيرة مبسوطة لأنها ربما التبست باللام.
وأما اللام فإنها لا تنقط ولا تعلم، وترك العلامة لها علامةٌ.
وأما الميم فإنها لا تنقط ولا تعلم أيضاً لانفرادها بصورة.
وأما النون فإنها تنقط بواحدة من أعلاها، وكان ينبغي اختصاص النقط بحالة التركيب ابتداءً أو وسطاً لالتباسها حينئذ بالباء، والتاء والثاء أوائل الحروف، والياء آخر الحروف؛ بخلاف حالة الأفراد والتطرف في التركيب أخيراً فإنها تختص بصورة فلا تلتبس كما أشار إليه الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله، إلا أنها غلبت فيها حالة التركيب فروعيت.
وأما الهاء فإنها لا تنقط بجميع أشكالها، وإن كثرت، لأنه ليس في أشكالها ما يلتبس بغيره من الحروف.
وأما الواو فإنها لا تنقط وإن كانت في حالة التركيب تقارب الفاء، وفي حالة الأفراد تقارب القاف، لأن الفاء لا تشابهها كل المشابهة، ولأن القاف أكبر مساحةً منها.
وأما اللام ألف فإنها لا تنقط لانفرداها بصورة لا يشابهها غيرها.
وأما الياء فإنها تنقط بنقطتين من أسفلها، وإن كانت في حالة الأفراد والتطرف في التركيب لها صورة تخصها، لأنها في حالة التركيب في الأبتداء والتوسط تشابه الباء، والتاء، والنون، فيحتاج إلى بيانها بالنقط لتغليب حالة التركيب على حالة الأفراد كما في النون، وربما نقطها بعض الكتاب في حالة الأفراد بنقطتين في بطنها؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.